صوت العقل وضمير الوطن: قراءة في خطاب الدكتور الخامس العلوي"

اثنين, 06/02/2025 - 23:34

"صوت العقل وضمير الوطن: قراءة في خطاب الدكتور الخامس العلوي"
تحليل: أسرة تحرير "الميدان"

أولًا: نبرة الرسالة وخلفياتها الفكرية والسياسية

تأتي هذه الصوتية الصادرة عن المفكر الدكتور سيدي محمد المصطفى الطالب احمادو، الملقب "الخامس العلوي"، في سياق وطني بالغ التعقيد، يتقاطع فيه الموروث السياسي المتآكل، بالواقع الاجتماعي المأزوم، مع إرادة التغيير المنبعثة من قلوب نخبة جديدة تؤمن بقدسية الوطن وضرورة إعادة تأسيسه على مرتكزات روحية وفكرية متصالحة مع هوية الشعب وكرامته.

تميزت هذه الرسالة بقوة البيان ووضوح الرؤية، فهي ليست مجرد خطاب عابر، بل هي نداء وجودي حارق موجه إلى كل مكونات الطيف السياسي والنقابي والحكومي في موريتانيا، بل إلى المجتمع بأسره، للتفكير في سؤال جوهري: إلى أين تتجه موريتانيا بعد أكثر من ستة عقود من التراكمات البيروقراطية، والتجارب الانقلابية، والانهيارات الاقتصادية؟

ويُلحظ منذ مستهل الصوتية أن الخطاب يتجاوز حدود التوصيف الكلاسيكي للواقع، ليرتقي إلى مقام التأسيس والتوجيه، متكئًا على خلفية فكرية صوفية إصلاحية، تستمد مقولاتها من عمق العقيدة، ومن وفاء نادر للرسالة الإصلاحية التي حملها رموز النضال التاريخي، ومنهم الشهيد سيدي محمد سميدع، الذي استحضره الدكتور الخامس بوصفه رمزًا للخيانة السياسية التي تعرضت لها البلاد منذ 1978.

---

ثانيًا: تعظيم رمزية الرئيس محمد ولد الدهاه ومرحلة "ما بعد البيروقراطية"

أبرز ما يلفت النظر في هذه الصوتية هو التثمين غير المسبوق لشخص الرئيس محمد ولد الدهاه، رئيس حزب "موريتانيا الجديدة"، الذي وصفه المفكر بأنه "الرئيس المبدع"، وصاحب "النزعة الإيمانية والوطنية"، مشيرًا إلى أن المرحلة القادمة لا تقتضي فقط تغيير الأسماء، بل تغيير المنهج، وتفكيك البيروقراطية الليبرالية الإقطاعية التي "استفحلت منذ زهاء 65 سنة".

لقد أراد الدكتور الخامس العلوي أن يُعيد الاعتبار للفعل السياسي المؤمن، للفكر الملتزم، وللزعامة التي تنطلق من قيم الحق والعدل، لا من منطق الغلبة أو التموقع، ولذا قدّم ولد الدهاه بوصفه مرشح المرحلة، وحامل مشعل العبور من الرتابة إلى النهضة.

وهي رسالة بالغة الرمزية، تنطوي على تمرد ناعم على النمط التقليدي لإدارة الدولة، وتفتح الباب أمام تحول فكري عميق، تُصاغ فيه مفاهيم القيادة والنخبة والولاء السياسي على أسس أخلاقية وعقدية، لا على قواعد الولاء المناطقي أو التفاهمات الزبونية.

---

ثالثًا: تعبئة هياكل الهيئة واستنهاض القيادات

في خطوة تعبّر عن جدية المشروع الفكري والإصلاحي الذي يقوده الدكتور الخامس العلوي، تضمنت الصوتية استنفارًا شاملًا لهياكل الهيئة والمركز التابع لها، ونداءً شخصيًا للقيادات في الداخل والخارج، مع ذكر الأسماء والولايات والدول التي يتواجدون فيها.

وهذه ليست مجرد قائمة أسماء، بل إعلان عن تعبئة فكرية وتنظيمية للمرحلة القادمة، تتقاطع فيها الدعوة إلى الانبعاث الوطني مع الجهد الإعلامي المكثف، وتكشف عن شبكة عمل متكاملة تمتد من نواذيبو إلى أنغولا، مرورًا بتونس والسعودية وولايات الداخل.

وهذا يشير إلى أمرين مهمين:

1. مركزية التخطيط: فالدعوة موجهة بلسان المفكر، لكنها تنبع من رؤية استراتيجية مدروسة، تراهن على العمل المنظم والمؤسسي، وتتوسل بالعقول والكفاءات بدل الخطابات الجوفاء.

2. عالمية التمدد الوطني: فاهتمام الهيئة لا يقتصر على موريتانيا كجغرافيا، بل يمتد ليشمل الموريتانيين في المهجر، باعتبارهم جزءًا من النسيج الوطني وفاعلين في مسار التغيير.

---

رابعًا: كشف التحالفات الظلامية وضرب النواة الصلبة للفساد

في لهجة مشحونة بالمرارة واليقظة، يوجه الدكتور الخامس العلوي سهام نقده إلى من سمّاهم بـ"تحالف الظلام"، جامعًا بين الكادحين بشقيهم، وفلول نظام الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، ومحيط الناشط بيرام الداه اعبيد، معتبرًا أنهم يقودون حملة تشويش ممنهجة استهدفت حتى حرية الكلمة، حين سعوا لإسكات صوت الحق عبر مخاطبة شركة "واتساب".

وهنا يتقاطع الخطاب مع مرجعية أخلاقية واضحة: من يقاوم الفكر، ومن يحاول إسكات التوجيه، إنما يكشف عن خواءٍ فكري، وانخراط في مشروع مضاد، يسعى لتجهيل الشعب، وحرف البوصلة عن الإصلاح الحقيقي.

---

خامسًا: إنجازات هيئة الخامس العلوي وتجذير المشروع التنويري

من أهم الرسائل التي تضمنتها هذه الصوتية هو التأكيد على عراقة وتجذر المشروع التوجيهي الذي تقوده الهيئة، فقد تم خلال سبعة عشر عامًا تقديم أكثر من 79 ألف محاضرة توجيهية و30 مقترحًا لمرتكزات الدولة، وهي أرقام تعكس زخمًا معرفيًا متواصلًا، ومثابرة ميدانية فريدة.

وتأتي هذه المحاضرات لتخاطب الإنسان الموريتاني حيث هو، في القرى النائية في "آدوابه" و"لكصور"،و " الفركان" حيث لا تصل السياسات العامة، بل تصل كلمة الحق والتنوير التي تحملها الهيئة إلى قلوب الملايين.

ولعل أكثر ما يعزز مصداقية الخطاب هو ربطه بالصدق مع الله أولًا، ومع الشعب ثانيًا، ومع فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني ثالثًا، في تناغم نادر بين الدين والسياسة والولاء الوطني، لا يسمح للمناورة أو الانتهازية.

---

سادسًا: إعلان التحول السياسي وانطلاق مرحلة "رد الجميل"

في منعطف لافت، يُعلن الدكتور الخامس العلوي توقفه عن نقد حكومة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، إيذانًا بانطلاق مرحلة جديدة عنوانها "رد الجميل"، وهي مرحلة يُعاد فيها توجيه الخطاب نحو إبراز المنجزات، وتحصين الوعي الجمعي ضد الشعارات الزائفة، وتحصين النضال من الانزلاق نحو العسكرة أو التوظيف الفوضوي.

وهذه نقطة مفصلية تؤشر على تحوّل استراتيجي في موقع الهيئة من "معارض إصلاحي ناقد" إلى "حليف ناصح ومساند"، مع الحفاظ على الاستقلالية الفكرية والروحية.

---

سابعًا: الخاتمة الشعرية ودلالتها الرمزية

اختتم المفكر الدكتور خطابه بأبيات الشاعر:

> على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم

وهو اقتباس شعري ذو دلالة عميقة، يراد به تثبيت الأمل، وتخليد الفكرة، وتوجيه رسالة إلى الشعب الموريتاني مفادها: من يملك العزم والإرادة، سينال المجد والكرامة، لا بالهتاف، بل بالفعل، ولا بالبيانات، بل بالبنيان.

---

إن صوتية الدكتور الخامس العلوي ليست مجرد خطاب تعبوي، بل هي وثيقة فكرية وتاريخية، تسعى إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي، وفضح التحالفات المضادة، وتوجيه البوصلة نحو قيادة إيمانية وطنية قادرة على انتشال موريتانيا من ماضي الانقلابات والخيبات، إلى مستقبل النهضة والبصيرة.

وهي أيضًا دعوة مضمخة بالإيمان، مسنودة بالتاريخ، موجهة إلى العقلاء من أبناء هذا الوطن، أن قوموا لله مثنى وفرادى، فالتاريخ لا يُصنع من خلف الشاشات، بل على جبهات الوعي والميدان.

وإن الهيئة، بقيادة مفكرها ومرشدها، ماضية في مشروعها، ثابتة على عهدها، صادعة بالحق، لا تخشى في الله لومة لائم.